Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مكتبة عامة
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: ماهو الربا القرضي المحرّم؟

ماهو الربا القرضي المحرّم؟ الذي نسعي لمعرفته هنا هو تحديد النوع المحرّم من الربا القرضي ليتسنَّى لنا تطبيق المصاديق على المحرّم والحكم بحلية مصاديقه الاُخرى.

لايخفى أنّ الربا في اللغة بمعني الزيادة.

وفي (الجواهر) بعد نقله الاخبار يقول : «ومنه كغيره يعلم أن ليس المراد من الربا المحرّم مطلق الزيادة، كما هو معناه لغةً وقد أشرنا إلى هذا المضمون. بل المراد به كما في (المسالك) وغيرها: بيع أحد المتماثلين المقدَّرين بالكيل أو الوزن في عهد صاحب الشرع(عليه السلام) أو في العادة مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكماً، أو اقتراض أحدهما مع الزيادة، وان لم يكونا مقدّرين بها إذا لم يكن باذل الزيادة حربيّاً، ولم يكن المتعاقدان والداً مع ولده ولا زوجاً مع زوجته».

وهذا بيان ما هو محَرّم عندهم أي بيان ما هو محَرّم عند الفقهاء لابيان مراد الآية.

ثم يضيف:

«وإن كان تعريفه بذلك لايخلو من نظر، من وجوه، إلاّ أنه يسهل الخطب عدم إرادة تعريف حقيقي، بل قد يقال: إن المراد به شرعاً المعنى اللّغوي، لكن في خصوص النسيئة والبيع أو مطلق المعاوضة»([40]).

ما ذكروه(قدس سرهم) جيّد لكنّ الكلام في موارد المراد به شرعاً المعنى اللّغوي، وهو العمدة في بحثنا في المقام من حيث شموله للقرض الربوّي الاستثماري وعدم شموله له.

ثم انّ المستفاد من المدوّنات التاريخيّة وكذا التفاسير أنّ الربا كان يمارس عهد نزول الآيات، وقد كان الربا يؤخذ بسبب التأخير في دفع الدين او أقساطه فعند حلول موعد القرض أو الدين يأتي الدائن أو المقرض يتقاضي من المدين مبلغاً لأجل التأخير في الدفع أو إرجاع الدين، وبعد دفع المبلغ يسمح الدائن للمدين تأخير الدفع إلى أجل آخر، ولهذا الشأن نزلت الآية الكريمة: (وَ إِنْ كَانَ ذُو عُسْرَة فَنَظِرَةً إِلَى مَيْسَرَة)([41]) طالبة من أصحاب الأموال أن يتوانوا ويصبروا على ذوي العسرة إلى أن يتسنّي لهم الدفع دون حصول حرج وضيق. والعقلاء يتفقون مع القرآن في التواني ومنح فرصة للدائن إذا لم يكن هناك إفراط أو تفريط، كأن يكون المقترض تاجراً في السوق ويكون معتدلاً ومتوازناً في تصرّفاته ومعاملاته وتجارته عموماً.

فعلى هذا أخذ الربا على التأخير في دفع الدين الحال، كأخذه مع الشرط من اوّل الامر المنطبق مع الاستهلاكي، هو المقدار المسلّم من الربا المحرَّم الوارد في الآيات والقدر المتيقن منها إن لم نقل بانحصار مدلول الآيات فيه، حيث إنه ليس في الآيات الا الدلالة على تحريم الربا من دون تفسير وتبيين فيها لذلك الربا المحرَّم.

ومن المعلوم قطعاً عدم كون المراد من الربا فيها مطلق الزيادة (المرادف مع لفظة على الاطلاق) فإنّ الربا في اللّغة (الزيّادة) لا (الزيادة الخاصّة) كما هو أظهر من الشمس وأزيد من الأمس وعليك بمراجعة اللّغة([42]) وموارد استعماله في الأخبار «من اربى الربا الاستطالة([43]) في عرض المسلم»([44]) فانّه غير محرّم قطعاً وضرورةً.

فانّ الزيادة في الأكل والزيادة في الكلام والزيادة في العلم وبيع سلعة مع زيادة على سعرها، والزيادة في البذل والعطاء، مباحة بالبداهة، بل الكتاب والسنّة والضرورة الشرعيّة والعقلائية، متفقة على عدم حرمة بعض الزيادات بل مطلوبيّة السعي في تحصيله.

امّا الكتاب: (وَمَا ءاتَيْتُمْ مِنْ رِّباً لِّيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْ بُوَا عِنْدَاللّهِ وَ مَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ زَكَوة تُرِيدوُنَ وَجْهَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ)([45]).

والمراد من الآية أنّ الشخص إذا كان مقصوده وداعيه في مثل إعطاء الهدية الوصول إلى اكثر منها باعطائه المهدي إليه والوصول بالزيادة والربا في أموال الناس بردّ عوض هديته بما هو أزيد واكثر منها عوضاً لها (كاسه آنجا رود كه قدح برگردد) فليس([46]) له زيادة وربا عنداللّه، وذلك بخلاف انفاق مايراد به وجه اللّه فيراد في عوضه ويضاعف فيه، ويكون المنفقين والمؤدين للزكاة لوجه اللّه هم المضعفون.

فالآية كالنصّ في عدم حرمة مطلق الزيادة بل وعلى مطلوبيّة السعي وكالنصّ في استعمال مادة الربا على نحو الحقيقة وبلا رعاية العلاقة في غير الزياده المحرّمة الربويّة.

وامّا السنة: خبر ابراهيم بن عمر اليماني عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: «الربا رباءان: ربا يؤكل، وربا لايؤكل، فأما الذي يؤكل فهديّتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها، فذلك الربا الذي يؤكل وهو قول اللّه عزّوجل: (وَمَا ءَاتَيتُمْ مِن رّباً لِيَرْبُوَاْ في أَمْوالِ النَّاسِ فَلاَيَرْبُواْ عِنْدَ اللّهِ)([47])، وأما الذي لايؤكل فهو الذي نهى اللّه عزّوجل عنه وأوعد عليه النار»([48]).

وخبر إبراهيم بن عمر عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) في قوله: (وَ مَا ءَاتَيْتُمْ مِنْ رّباً لِيَرْبُوَاْ فِي أمْوالِ النَّاسِ فَلاَيَرْبُواْ عِنْدَ اللّهِ)([49]) قال: «هو هديتك إلى الرجل تريد منه الثواب أفضل منها، فذلك ربا يؤكل»([50])

وليس في الخبرين أزيد مما في الآية مع انّه يبدو كون الحديثين حديثاً واحداً، وكيف كان، ففي نقله من قبل المشايخ الثلاثة إشعار باعتباره.

وبالجمله، ليس كل زيادة محرّمة ضرورة وليس المراد من الربا المحرّم في الآيات والروايات مطلق الزيادة قطعاً فلابدّ الاّ من السعي والفحص في طلب المراد والمحرّم من الربا في الادلّة وانّه اعمّ من الزيادة في القرض الاستهلاكي والاستثماري، فكلا القرضين محرّم وربوي او انّه مختصّ بالاوّل ، وهو المحرّم ، وغير شامل للثاني فلاحرمة له.

فأقول مستيعناً باللّه: امّا آيات الربا على كثرتها تكون خالية من التفسير وتوضيح المراد منه ، كما هو الحال في غالب مفاهيم وعناوين آيات القرآن إن لم يكن في كلّها، ودونك الآيات:

في سورة البقرة: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَوا لاَ يَقُوموُنَ إلاَ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَيْطَانُ مِنَ المسِّ ذلكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّماَ الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَ أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِبوَاْ فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أصْحَـبُ النّارِ هُم فِيهَا خَلِدُونَ ـ يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَواْ وَ يُرْبِي الصَّدَقَـتِ وَ اللّهُ لايُحِبُّ كُلَّ كَفَّار أَثيم ـ إنَّ الذَّينَ ءَامَنُوا وعَمِلُوا الصَّلحَـتِ وأَقَاموُا الصَّلَوةَ وَ ءَاتَوُا الزِّكَوةَ لَهُمْ أَجْرُ هُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ـ يأَيُّهَا الَّذينَ ءَامَنُوا اتَّقُو اللّهَ وَ ذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَواْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤمِنيِنَ فَإنْ لَمْ تَفْعَلوُا فَأْذَنُوا بِحَرْب مِنَ اللّه وَرَسُولِهِ وَ إنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُمْ لاَتَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)([51]).

وفي سورة آل عمران: (يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَاَمنُوا لاَ تَأكُلُوا الرِّبَوا أضْعـفاً مُضـعَفَةً وَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)([52]).

وفي سورة النساء: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَواْ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وأَكْلِهِمْ آموالَ النّاسِ بِالْبَطِلِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَـفِريَنَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)([53]).

نعم في قوله تعالى: (وَأَحلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوا) على أظهر الاحتمالات في تفسيره دلالة على انّ المحرّم الاستهلاكي منه وقصوره عن إثبات حرمة الاستثماري منه بل الظاهر دلالته على حليّة الثاني واختصاص الحرمة بالاوّل.

وبيان ذلك موقوف على نقل ما قيل أو يقال في تفسيره، ونقول: انّ العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان قال: «(وَأَحَلَّ اللّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الِرّبَواْ) جملة مستأنفة بناءاً على أنّ الجملة الفعليّة المصدرة بالماضي لو كانت حالاً لوجب تصديرها بقد . يقال: جائني زيد وقد ضرب عمراً، ولايلائم كونها حالاً مايفيده أوّل الكلام من المعنى، فانّ الحال قيد لزمان عامله وظرف لتحققه، فلوكانت حالاً لأفادت أن تخبطهم لقولهم إنّما البيع مثل الربا إنّما هو في حال أحَلَّ اللّه البيع وحرم الربا عليهم ، مع أن الأمر على خلافه فهم خابطون بعد تشريع هذه الحليّة والحرمة وقبل تشريعهما، فالجمله ليست حالية وانّما هي مستأنفة»([54]).

وقوله تعالى: (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ) يعني أنَّ تخبّطهم بلغ درجة حيث مثّلوا البيع بالربا بدل تمثيلهم الربا بالبيع، وكأنّهم يشتبهون في حلية البيع ويقطعون بحلّية الربا، وذلك كلّه لأجل انحرفاتهم الفكريّة وتخبّطهم فيها.

وفي تفسير المنار([55]) ذكر احتمالاً آخر مبنيّاً على أنّ الواو حاليّة وأن الجملة الواقعة بعده تكون جواباً عن إشكال الآكلين للربا على قوانين اللّه بقولهم انّما البيع مثل الربا فانّهم لايرون فرقاً بين المعاملتين، وبعبارة اُخرى: يسألون اللّه والرسول والشرع والاسلام بأنّه ماالفرق بين بيع النسيئة (بزيادة على البيع العاجل) مع الربا حيث تستحلّون ذلك البيع دون الربا مع كونهما مماثلين؟ وفي بيان المراد من الجواب القرآني لهم قولان وتفسيران: أحدهما: كون جواب اللّه قاطعاً وانّ اللّه أحلّ البيع وحرّم الربا من دون بيان في وجه الفرق وجهة التشريع، فكأنّه لم يعتن بايرادهم وسؤالهم وأنّ سؤالهم فضول ودخالة في تشريع اللّه تعالى.

وهذا النوع من الجواب قديصدر من غير واحد منّا أحياناً، لكنّه لايصلح لأن يكون جواباً على إشكالهم وسؤالهم عن الفرق بين البيع والربا وانّه ما الفرق بين ربا النسيئة وبين أخذ الزيادة على تأخير الدين الحال؟ بل يكون مخالفاً لدأب القرآن وديدنه في الاجابة على هذا القبيل من الأسئلة، فانّه لايناسب مع ما سعى إليه القرآن واتّخذه من منهج هداية وتربية وبيان تعليم واحتجاج ومنطق، فانّ اللّه تعالى يريد: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيّنَة وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عن بَيِّنَة)([56]) نعم، قد يصلح هذا جواباً بالنسبة إلى المسلم الذي اتضّح لديه المبني الفكري الاسلامي القائل بأن اللّه:«حَكيمٌ»([57]) ويعمل مافيه المصلحة دون المفسدة، وأنّه (لَيْسَ بِظَلاَّم)([58]) وأنّه عالم بكلّ شيء([59]) ونحن لانعلم إلاَ القليل (وَمَا أُوُتيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاّ قَليلاً)([60]).

وهذا له وجه، لكن ليس هو المألوف دائماً عن القرآن والروايات التي تسعى لتبرير الامور في الاذهان والأفكار بالاستعانة بالارتكازات العقليّة والعقلائيّة.

ودونك الآيات الكريمة المشتملة على ذلك التقريب:

قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)([61]).

فكأن الآية تريد القول بكون شهر رمضان تمريناً للتقوى وأنّ الصوم فيه سبب لحصول التقوى بالتمرين في ترك مثل الأكل والشرب من المفطرات، ففي الآية تقريب للذهن وتمشية للمكلّف بالاتيان بذكر الوجه والمصلحة المقتضية للتكليف وهو التمرين للتقوى.

وقوله تعالى: (وَللّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبيلاً)([62])جاء تبرير هذا الحكم في الآية اللاحقة: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ)([63]).

وقوله تعالى (وأَقِمِ الصَّلَوةَ)([64]) جاء تبريرها في نفس القرآن كالتالي: (اِنَّ الصَّلوةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشآءِ وَ الْمُنْكَرِ)([65]) وهكذا في آيات اُخرى جاء تبريرها في الروايات كذلك وبالشكل التالي: «الصلاة معراج المؤمن»([66]) و«الصلاة قربان كلّ تقّي»([67]).

إذا جاء الحكم مع تبريره وتوجيهه كان مقبولاً أكثر، وهذا هو منطق القرآن، فلم يترك المسلمين في جهل باحكام دينهم وفلسفة ممارسات من قبيل الطواف والسعي بين جبلين والهرولة والركوع والسجود، كما يظهر من مراجعة الأخبار لاسيّما الموجود منها في كتاب (علل الشرائع) جواباً عن السؤال بمثل تلك الجهات.

لم يترك الرسول(صلى الله عليه وآله) المسلمين في جهل عن قضية إدخال حجر اسماعيل في الطواف، بل علّله بأنّ هناك قبر امرأة سوداء مع ولدها وأربعة من أهلها أي هاجر(عليها السلام)([68]) وعند قبرها يستجاب الدّعا([69]). وكتاب (علل الشرائع) للشيخ الصدوق ملىٌ بقضايا من هذا القبيل.

وبناء على ما تقدم لا يمكن أن يقال بأنّ هذا التفسير الاول لجواب القرآن صحيح وتامّ.

ثانيهما: كون جوابه تعالى جواباً اقناعيّاً بإرجاعهم إلى عقلهم وفطرتهم السليمة وإلى ما يقبله العقلاء في معيشتهم ومعاملاتهم بل وإلى بنائهم بأنفسهم في معاملة الغير معهم وذلك بأنّه إذا باع شخص شَيئاً بثلاثين درهماً تدفع بعد شهرين، فاذا حلَّ الأجل ولم يستطع الدفع كان أمر القرآن والعقل والعقلاء كالتالي: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة)([70])واجباره على الدفع يعدّ ظلماً ، وهو قبيح عقلاً.

فهذا هو البيع المشبّه بالربا والسؤال عنه أنّه ايّ فرق بينه وبين الربا مع حصول الزيادة فيهما؟

امّا اذا أراد ذلك الشخص أخذ الربا بعد حلول الأجل وأخذ عشراً في الدفعة الاولى وعشراً في الثانية والثالثة وهلمَّ جرّاً أدَّي ذلك إلى صيرورة الفقير أشدّ فقراً إلى مستوى قد يبلغ أصل الربا المدفوع أكثر من نفس الدين، ويضطرّ الفقير عندئذ لعمل أعمال يندى الجبين لذكرها وهذا هو الربا المشبّه به، فكم من فرق بينهما؟ بل الفرق بينهما بقدر الفرق بين العدل والاحسان والظّلم والعدوان ويكون أزيد ممّا بين السماء والارض، ففي الجواب على ذلك الوجه إقناع وتقريب واضح وابطال لسؤالهم ولعروتهم لحلية الربا بالتشبيه بأحسن وجه وأتقن ابطال لمقالتهم.

وبذلك الاحتمال الّذي هو أظهر احتمالات الآية يظهر دلالتها على أن المحرّم من الربا القرضي الاستهلاكي منه دون الاستثماري ، حيث إنّ جوابه تعالى على ما بيّناه ناظر إلى إرتكازاتهم العقلائية وقضاءاتهم العقليّة، فانّها الحاكم بقبح الربا لاستلزامه الفقر وكونه ظلماً وعدم كون البيع النسيئه مع الزيادة المتعارفة كذلك لعدم استلزامه القبح والظلم الناشئين من استلزام الزيادة في الفقر والفاقة للمشتري، ومن المعلوم وجود هذا الفرق بين الاستهلاكي والاستثماري واللازم منه حرمة الاوّل وحلية الثاني.

وبالجملة، مقتضى تنقيح المناط المستفاد من الاحالة إلى الارتكاز بقوله : (أَحَلًّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبَواْ) هو الفرق المذكور، فتدبّر جيّداً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الآيات وقد عرفت عدم الدلالة فيها على ما هو المحرّم من الربا بعد ما لم يكن الربا بمفهومه اللّغوي، اي مطلق الزّيادة، محرّماً قطعاً وضرورةً لا كلّها لما مرّ من حلّية غير واحد من أنواع الزيادات بالبداهة، فالمحرّم منه بعض مصاديقه من الربا الخاصّ في المكيل والموزون اي الربا التخلّفي فيهما بالخصوص المحتمل كونه هو الواقع في ذلك الزمان ومن الربا القرضي الاستهلاكي او الاعمّ منه ومن الاستثماري ومن الربا بالاضعاف المضاعفة المفسّر به الآية الكريمة التالية : (يَاأيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَوا أضْعَفاً مُضعَفَةَ)([71]) اي جعل الزّيادة في الدين المؤجل بعد ما صار حالاًّ ولم يكن المديون قادرا على الاداء اوّلاً وثانياً وثالثاً إلى أن يصير المديون صفر اليدين وإلى أن يعمل دائماً للدائن بل وإلى أن يجعل عرضه (نعوذ باللّه ) وسيلة لاداء الدين ، وهو الواقع في التاريخ والمنشأ لما في صحيحة، جميل بن درّاج من قوله(عليه السلام) قال: «درهم ربا أعظم عنداللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام»([72]) فانّها ليست بلا سبب ولا بلامورد في زمان صدورها لما في بيان عظمة الحرمة من كون الدرهم من الربا أشدّ وأعظم بسبعين زنية كلّها بذات المحرم في بيت اللّه.

الآيات كلّها مجملة بالنسبة إلى المحرّم وإن كانت نصاً في الحرمة في الجملة لكنّها غير مفيدة وغير حجة على المورد الاّ بالبيان والحجة ومع عدم البيان لابدّ الاّ من الاقتصار على المتيّقن من الربا الاضعاف المضاعف والقرض الاستهلاكي وما شابهما ممَّا يكون منكراً وموجباً لزيادة الفقر على المديون دون غيره ممَّا يكون معروفاً ومفيداً في غنى المديون وفي وصول النفع إليه.

وامّا بحسب الأخبار فهي كالآيات من حيث الاجمال ومن حيث الدلالة على الحرمة في الجملة، وذلك لانّ الأخبار الدالّة على حرمة الربا بعنوانه ممّا فيه بيان المصداق للربا المحرّم على طائفتين:

احدهما: ما تدلّ على أنّ الربا لايكون إلاّ في المكيل والموزون: وهي صحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن»([73]).

وموثقة عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام، يقول: «لا يكون الربا إلاّ فيما يكال أو يوزن»([74]). وهي منقولة في الكتب الاربعة([75]) للمشايخ الثلاثة بل وفي (التهذيب)([76]) نقلها بأسانيد متعددة، فالرواية مشهورة.

وموثقة منصور بن حازم، قال: سألته عن الشاة بالشاتين، والبيضة بالبيضتين، قال:«لابأس ما لم يكن كيلاً أو وزناً»([77]).

وهذه الاخبار مع قطع النظر عن كونها مختصّة بالربا المعاملي وغير شاملة للربا القرضي موضع بحثنا انّها غير متعرضة لبيان ذلك الربا على التفصيل أيضاً للأمور التالية:

اوّلاً: من أنّه مربوط بالنسيئة او النقد او الاعمّ منهما وبالجملة تلك الاحاديث في مقام بيان الحصر لا المحصور فلا اطلاق فيها، وتكون مجملة وأنّها موجبة للتخصيص المستهجن في المستثنى.

ثانياً: حيث انّ غيرهما من المعدود والمشاهد في المعاملات يكون اكثر منهما بمراتب، فتخصيص حرمة الربا المعاملي بالمكيل والموزون وان الربا في المشاهد والمعدود غير محرّم تخصيص بالاكثر المستهجن.

لايقال: لسان الأخبار لسان الحكومة فأين التخصيص وأين الاستهجان؟

لانّه يقال: مع أنّ الحكومة تخصيص لبًّا، الاستهجان فيها أشدّ وأكثر، لانّ نفي الربا عن غيرهما ادّعاءً مع كثرته في غيرهما كما ترى، وأنّ تلك الأخبار مخالفة لآيات التحريم وسنّته فليست بحجّة.

ثالثاً: حيث انّ لسانهما بما فيه من عظمة الحرمة وشدتّها وانّه آذان بحرب مع اللّه تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله) ويكون درهم منه أعظم وأشدّ من سبعين زنية كلّها بذات المحرم، آبية عن التخصيص ، فليست الأخبار مخصصة بل تكون معارضة ومخالفة معهما.

رابعها: وأنّ ادّعاء كون المعاملة في المكيل والموزون من دون الزيادة الماليّة بل ومع التساوي فيها رباء مع وجود الزيادة في الكميّة مثلاً ومع كون الثمن والمثمن واحد بحسب الاصل كما هو المعروف والمستفاد من الأخبار على ما ذكروه رباءً ومحرّماً غير صحيحة فانّ في الادّعاء لابدّ من نحو شباهة في الآثار ومن المعلوم عدم كون المعاملة كذلك منكراً وظلماً ومانعاً من التجارة وموجبة لفقر مؤدّي الربا والزيادة لعدم الزيادة الحقيقيّة من راس.

ولا يخفى أنّ مع هذه المحاذير في تلك الاخبار لابدّ فيها من التوجيه والحمل على الربا على نحو التخلّف الواقع في ذلك الزمان، فهي قضايا خارجيّة تدلّ على حرمة أخذ الزيادة منهما حين حلول أجل القرض أو المعاملة والربا كذلك وإن لم تكن حرمته مختصّه بالمكيل والموزون الاّ انّها لما تكون ناظرة إلى الواقع والخارج فاختصّت الحرمة فيها بهما، فتدبّر أو ردّ علمها إلى أهلها.

ثانيهما: ما تكون مربوطة بالقرض الربوي، كخبر حفص بن غياث، عن أبي عبداللّه(عليه السلام)قال: «الربا رباءآن: أحدهما ربا حلال، والآخر حرام، فأمّا الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضاً طمعاً أن يزيده ويعوضه بأكثر ممّا أخذه بلا شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له وليس له عنداللّه ثواب فيما أقرضه، وهو قوله عزّوجلّ: (فَلا يَرْبُوا عِنْدَاللّهِ)([78]) وأمّا الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضاً ويشترط أن يردّ أكثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام»([79]).

وكصحيحة خالد بن الحجّاج قال: سألته عن الرجل كانت لي عليه مأة درهم عددا قضانيها مأة وزنا، قال: «لابأس ما لم يشترط»، قال: وقال: «جاء الربا من قبل الشروط، انّما يفسده الشروط»([80]).

كغيرهما من الروايات الدالّة على أنّ الربا الحرام في القرض من قبل الشرط وهي كثيرة منقولة في (الوسائل) في الباب 12 من أبواب الصرف([81]).

وهذه الاخبار، كما ترى ، تدلّ على حرمة القرض الربوي مع الشرط على الاجمال بل صحّة الاستدلال ايضاً على حرمة القرض كذلك بقوله تعالى : (وَاِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوالِكُمْ)([82]) غير بعيد حيث انّ رءوس الاموال لآكل الربا انّما يكون في الربا القرضي والاّ ففي المعاملي منه رؤوس ماله هو المُثمن لا الثمن، كما لا يخفى.

وقد احتمل الامام الخميني(سلام اللّه عليه) ذلك في كتاب البيع([83]).

وكيف كان تمامية الاخبار على الحرمة مما لا أشكال فيه وانّما الاشكال والكلام في أنّها هل تشمل جميع القروض حتى الانتاجية منها أم تكون مختصة بالاستهلاكيّه فقط؟ هذا كلّه في الآيات والاخبار، وقد عرفت قصورها من بيان المحرّم من القرض الربوي من أنّه الأعم من الاستهلاكي والاستثماري أو الاستهلاكي فقط، لعدم دلالة الآيات على كثرتها على أزيد من أصل حرمة الربا وشدّتها من دون التعرّض للمصداق المحرّم من الزيادة والربا على ما مرّ بيانه ، لعدم ارتباط أخبار الربا المعاملي مع ما فيها من المحاذير بمحل البحث اوّلاً وعدم كونها مبيّنه للمحرّم منه فضلاً عن المبحوث عنه وهو القرض الربوي ثانياً مثل أخبار القرض حيث إنّه ليس فيها بيان المراد والمصداق من الربا والزيادة المحرّمة من انّه الاعمّ من الاستهلاكي او الاختصاص به كما ذكرناه مراراً.

وامّا كلمات الفقهاء فليس فيها أزيد من تعاريف لبيان ما هو المحرّم عندهم بعد الاعتراف صريحاً او ظهوراً لفظيّاً أو عملياً في البحث والكتابة على عدم التفسير في مفهوم الربا وأنه الزيادة في اللغة وأنّ المحرّم وما هو المعرّف (بالفتح) من باب المصداق وتطبيق المفهوم به فكلماتهم ليست بأزيد من اجتهاد ودراية في الكتاب والسنّة فليست حجة على المراد والمقصود من الآيات والأخبار فتدبّر جيّداً.

ودونك عبارة (الجواهر) التي هي الجواهر في العبائر والمسائل:

«ومنه كغيره يعلم أن ليس المراد من الربا المحرّم مطلق الزيادة، كما هو معناه لغة، المراد به كما في (المسالك) وغيرها: (بيع أحد المتماثلين ـ المقدّرين بالكيل أو الوزن في عهد صاحب الشرع(عليه السلام)أو في العادة ـ مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكماً، أو اقتراض أحدهما مع الزيادة، وإن لم يكونا مقدرين بها، إذا لم يكن باذل الزيادة حربياً، ولم يكن المتعاقدان والداً مع ولده، ولا زوجاً مع زوجته)([84])وإن كان تعريفه بذلك لايخلو من نظر، من وجوه إلا أنه يسهل الخطب عدم إرادة تعريف الحقيقي، بل قد يقال: إن المراد به شرعاً المعنى اللّغوي، لكن في خصوص النسيئة والبيع أو مطلق المعاوضة، بناء على تعميمه بالشرائط الّتي تسمعها إن شاء اللّه، وبيع الربا هو البيع المشتمل على الزيادة كما أومى إليه الرضا(عليه السلام)([85]) بما سمعت.

وعن حواشي الشهيد([86]) وآيات المقداد([87]) و(جامع المقاصد)([88])أنّه شرعا زيادة أحد العوضين إلى آخر ما سمعته من (المسالك)، وعن (فقه القرآن ) للراوندي: (أصل الربا الزيادة والربا هو الزيادة على رأس المال من جنسه أو مماثله)([89]) إلى غير ذلك، ممَّا يرجع إلى ما ذكرنا من النصوص وغيرها، فضلاً عن التبادر»([90]).

إذا عرفت ذلك كلّه فأقول مستعيناً بالله تعالى : إنّ الحق عدم حرمة الربا الاستثماري الّذي ليس بمنكر بل يكون معروفاً دون الاستهلاكي المنكر غير المعروف ، فانّه محرّم بحرمة شديدة وليست الحيل محللّة له ، وذلك لانّ حرمة الثاني هو المتيقن المقطوع من أدلّة حرمته وهو الرائج في زمان صدور الآيات والروايات كما ما نراه في الرساتيق بل في البلاد في السنوات الماضية بل إلى هذه السنة وهي (غير رائج ويكون نادراً سنة ثلاثين بل واربعين بعد الثلاثماة والف سنة شمسيّة من الهجرة النبويّة على هاجرها وآله الصلاة والسلام)، وان كان غير رائج ويكون نادراً . ولقد أجاد وافاد سيدنا الاستاذ (سلام اللّه عليه) وجاء بما لا مزيد عليه في بطلان الحيل في الربا القرضي في كتاب بيعه فراجعه([91]).

وأمّا حليّة الاول فلوجوه من الاصل ومن الاطلاق والعموم في ادلّة العقود والشروط والتجارة عن تراض بل من الاطلاق في ادلّة القرض أيضاً، نعم الاستدلال بهما موقوف على قصور ادلّة التحريم عن شمولها له وسنبيّنه إن شاء اللّه تعالى .

ومن المعلوم انّ الاصل ، مع عدم الدليل على الحرمة، الحلّ، كما أنّ مقتضى العمومات في العقود أيضاً الصحّة والحلّ مع عدم المخصّص وقصور ادلّة التحريم عن إثبات الحرمة وتخصيص العمومات ، كما هو واضح، غير محتاج إلى البيان، بل ومن بناء العقلاء على الصحّة ولا احتياج في أمثال تلك الابنية في المعاملات إلى الامضاء وكشف رضا الشارع حتى يقال يكون الربا كذلك لم يكن رائجاً بل لم يكن موجوداً في ازمنة المعصومين(عليهم السلام)فانّه امر حادث من بعد تحقق البنوك ومعاملاتها في العالم، لأنّ المعاملات لما كانت امضائية لا تأسيسيّة فكلّما لم تكن من تلك الابنية مردوعة تكون حجة ودليلاً على الصحّة ، كما لا يخفى وجهه على النافذ البصير والعارف بكيفيّة التشريع وجعل القوانين وطرق اثباتها.

هذا كلّه مع ما في تعليل حرمة الربا في الاخبار ، من أنَّه منكر غير معروف وبأنّه سبب لمنع التجارة والنشاطات الاقتصاديّة، من الدّلالة على عدم حرمة الربا إن لم يكن كذلك بل كان معروفاً وسبباً لزيادة التجارة والانتاج والنشاطات الاقتصاديّة ، فانّ العلّة تخصص كما أنها تعمّم ، فأنّ العلّة ظاهرة عرفاً في التعميم والتخصيص كما أنّها كذلك عقلاً أيضاً بلا اشكال ولا كلام.

اذا عرفت ذلك كلّه فلنرجع إلى ما هو المهمّ في البحث وعماد ادلّة الحلّ من بيان الشواهد والقرائن في ادلّة الحرمة على اختصاصها في حرمة القرض الربوي بالاستهلاكي منه دون الاستثماري ، وهي امور:

أحدها: انّ جل آيات الربا ان لم تكن كلّها جاءت مقترنة بآيات الانفاق وإلى جنبها، وهذا قرينة على أنّ الربا المحرّم هو ذلك الذي يحلّ محلّ الانفاق، أو في المحلّ الذي ينبغي أن يحصل فيه الانفاق، فإذا كان المقام مقام انفاق مثل الفقير المسكين كان أخذ الربا منه حراماً لأجل أنّ المفروض كون اللازم على الدائن الموسر الانفاق على المديون وسد خلّته ولو بالقرض من دون الربا والزيادة فضلاً عن الصدقة لئلاّ يحتاج إلى القرض الربوي منه ومن أمثاله.

فأخذه الزيادة منه بالقرض الربوي الراجع في الحقيقة إلى إيجاد الضيق على المديون وعائلته واستثماره وأخذ ما ملكه بالكدّ وعرق الجبين هو الّذي لابدّ وأن يعدّ بمثابة المضادة والمحاربة مع اللّه تعالى ورسوله(صلى الله عليه وآله)وأن يعدّ ظلماً فاحشاً على المديون وان يصير في العصيان أعظم من سبعين زنية بالمحارم في بيت اللّه الحرام، وهذا هو الربا المحرّم ، وأمّا الربا الاستثماري فلا ارتباط ولا مناسبة بينه وبين الانفاق والصدقة على المديون من رأس ، كما هو الظاهر على المفروض، فالمقارنة بين الصدقة والانفاق ومسألة الربا قرينة على أنّ المراد من الربا في الآيات الاستهلاكي المناسب مع مسألة الصدقة وتكون مختصّة به دون غيره من الاستثماري لعدم المناسبة بينه وبين الصدقه والانفاق على المديون.

وبالجملة ، في المقارنة شهادة وقرينة بل قرينة واضحة على الاختصاص فتدبّر جيّداً، حتى يحصل لك زيادة اطمئنان بقصورها عن إثبات الحرمة للاستثماري.

ثانيها: المستفاد من قوله تعالى: (وَاِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ)([92]) انّ الربا ظلم عرفي عقلائي حيث انّ المتفاهم عرفاً دلالة الآية على أنّ لهم مع التوبة رأس المال فقط لا الزائد عليه حتّى (لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ)، انّ أخذهم الزائد ظلم على المديونين كما أنّ أخذهم اصل رأس المال غير موجب لوقوع الظلم عليهم ، كيف ووصل إليهم مالهم من المال والحقّ، وأنّ تحريمه ليس إلاّ لقبح الظلم وحرمته؟ فحرمة الربا دائرة مدار الظلم ومنحصرة في مصاديقه انحصار الحكم بالموضوع أوالمعلول بالعلّة وبما يلزم عدمه في التوبة، فلابدّ في الحكم بحرمة الزيادة والربا من الفحص عن ذلك وعرفان موارده فكلّما كان الربا فيه مستلزماً لذلك فهو الانحصار المحرّم دون غيره لما بيّناة من وجه، وكون الربا الاستهلاكي ظلماً مما لا يشكّ فيه احد، امّا الاستثماري منه فليس بظلم قطعاً، كما لا يخفى على من عرفه بل هو إحسان عرفاً لكونه يؤثر إيجابياً في ادارة عجلة الاقتصاد وينمّيه ويرفع من مستواه سواء كان على الصعيد الشخصي أو على الصعيد الحكومي.

وكيف يصّح أن يكون ظلماً ومحرّماً مع أنّه في اللّب مشترك مع المضاربة والمشاركة؟ ومع أنّ القرض بلازيادة ليس بواجب في الشرع وأنّ من له رأس المال ليس له الداعي إلى قرض المال على الدوام أو على الغلبة من دون أخذ الزيادة ومحض الاستحباب والثواب ليس بداع لذلك ، كما نراه ونشاهده ، فكونه ظلماً ومحرماً موجب لسدّ باب المعاملة لغير القادر على الفعاليّة الاقتصاديّة برأس ماله، وموجب للتفاوت بين معاملة كالمضاربة والمشاركة وذلك القرض الرّبوي مع عدم التفاوت بينهما لدى العقلاء وعدم القبح وفي ترتّب الآثار الاقتصادية، وهما كما ترى.

ثالثها: جاء في سورة النساء: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أكْلِهِمْ أمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ)([93]) والظاهر من الآية أنّ الربا وأكل اموال الناس بالباطل شيءٌ واحد لا شيئين، أي أنّه من قبيل ذكر العام بعد الخاصّ.

ولا شكّ بأنّ الربا الاستهلاكي باطل وحرام، أمّا الاستثماري فليس كذلك لأجل ما تقدّم من أنّه يلعب دوراً إيجابيّاً واضحاً في إدارة العجلة الاقتصادية.

رابعها: العلل والحكم التي وردت في أخبار الحرمة تقريباً للأذهان وارجاعاً إلى الإرتكازات العقلائيّة فانّها تتناسب مع الاستهلاكي بل تنحصر فيه .

ودونك الاخبار:

منها: خبر هشام بن الحكم، أنّه سأل أبا عبد اللّه(عليه السلام) عن علّة تحريم الربا؟ فقال: «إنّه لو كان الربا حلالاً لترك الناس التجارات ومايحتاجون إليه فحرّم اللّه الربا لتنفّر الناس من الحرام إلى الحلال وإلى التجارات من البيع والشراء، فيبقى ذلك بينهم في القرض»([94]).

الظاهر أنّها صحيحة ومن الواضح أنّ الربا الاستثماري ليس لترك الكسب والتجارة والصناعة والزراعة ولا مستلزماً لها، بل الامر بالعكس أي لإدارة عجلتها ولتنميتها وتطويرها، فلا يكون هذا القبيل من القرض الربوي مشمولاً لأدّلة الحرمة قضاءً للعلّة فانّ الحكم يدور مدارها عموماً وخصوصاً.

ومنها: خبر زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: «إنّما حرّم اللّه عزّوجلّ الربا لئلاّ يذهب المعروف»([95]).

فالعلّة للتحريم ـ على ما في هذا الخبر ـ إنّما تكون لأجل كون الربا موجباً لذهاب المعروف الاقتصادي ، فانّ المعروف في كل باب بحسبه ، والمعروف هو ما يحسنه العقلاء ويرونه حسناً من دون نهي تحريمي او كراهتي من الشرع.

ومن المعلوم أنّ الربا الاستثماري النافع لصاحب المال والدائن وللمديون والعامل معروف عقلائي بلا شبهة وارتياب فإنّهم لا يذمّون الدائن والمديون كذلك بل يمدحونهما في ايجاد العمل والاشتغال لأبناء المجتمع وإنتاج المواد الغذائيّة وغيرهما بالقرض والاستقراض كذلك، فكيف يكون محرّماً ومشمولاً للعلّة؟ بل وأنّ القرض الربوي الاستثماري منكر، دون ذلك خرط القتاة.

ومنها: خبر محمد بن سنان، انّ علي بن موسى الرّضا(عليه السلام) كتب اليه فيما كتب من جواب مسائله: «وعلّة تحريم الربا لما نهى اللّه عزّوجل عنه، لما فيه من فساد الأموال، لأن الانسان إذا اشتري الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً فبيع الربا وشراؤه وكس([96]) على كلّ حال على المشتري وعلى البائع، فحرم اللّه عزّوجل على العباد الربا لعلّة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من فساده حتّى يؤنس منه رشد، فلهذه العلّة حرّم اللّه عزّوجل الربا، وبيع الدرهم بالدرهمين... الحديث»([97]).

والرواية كالنصّ على أنّ علّة حرمة الربا فساد الأموال به وبيّنه بقوله(عليه السلام): «لأن الانسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً فبيع الربا وشراؤه وكس على كلّ حال على المشتري وعلى البائع».

كون بيعه وكساً على المشتري فواضح ، امّا على البائع فوكسه باعتبار مايريده وعلى حسب ارادته حيث أنّه يريد أخذ الدرهمين وصيرورته مالكاً لهما ولمّا كان الدرهم الزائد باطلاً وحراماً فلم يصل البائع إلى تمام مراده وحصل له الوكس في مقصده بحسب الشرع ومن جهة البطلان وبكونه وكساً على البائع والمشتري معاً فحرّمه اللّه تعالى لعلّة فساد الأموال ، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوّف من فساده حتى يؤنس منه رشده.

إذا عرفت ذلك فنقول: انّ من الواضح عدم كون الربا الاستثماري وكساً على المديون فضلاً عن الدائن وعدم كونه سفهاً، فيه فساد المال لما للمديون من النفع في استقراضه على ما هو المفروض ، كما انّ للدائن ذلك بلا شبهة ، ولكون الدين والقرض كذلك موجباً لحفظ الأموال وللنفع منها من دون ذهاب المال وفساده ، كما هو أظهر من الشمس وأبين من الأمس وذلك بخلاف الاستهلاكي منه الموجب لدفع المديون الزائد، وهو وكس عليه، كما أنّ الدائن الزائد المدفوع اليه بما انه باطل وظلم فيكون وكساً عليه أيضاً كما، مرّ بيانه، فعلى ذلك يكون الحديث مختصاً بحكم العلّة المذكورة فيها كغيرها ممّا فيه العلّة من أخبار الباب بالربا الاستهلاكي وغير شامل للاستثماري، فانّ العلّة تخصص كما أنّها تعمم.

ولقد أحسن (صاحب الجواهر) في الاشارة إلى دلالة الحديث من جهة العلّة إلى انّ حرمة الربا دائرة مدار العلّه حيث قال(قدس سره): «ومنه كغيره يعلم أن ليس المراد من الربا المحرّم مطلق الزيادة، كما هو معناه لغة، بل المراد ـ به كما في (المسالك) وغيرها ـ بيع أحد المتماثلين المقدرين بالكيل أو الوزن في عهد صاحب الشرع(عليه السلام) أو في العادة مع زيادة في أحدهما حقيقة أو حكماً، أو اقتراض أحدهما مع الزيادة، وإن لم يكونا مقدرين بها إذا لم يكن باذل الزيادة حربياً، ولم يكن المتعاقدان والدا مع ولده، ولا زوجاً مع زوجته»([98]).
___________________________________________
([40]) جواهر الكلام 23: 234.
([41]) البقرة 2: 280 .
([42]) في مقاييس اللّغة 2: 483، «وهو الزيادة» وفي لسان العرب 5: 127، «زاد ونما» وفي القاموس: «زاد ونما».
([43]) أي الطالة اللّسان .
([44]) كنز العمّال 3: 600.
([45]) الروم 30: 39.
([46]) جزاء إذا «إذاكان مقصود».
([47]) الروم 30: 39 .
([48]) وسائل الشيعة 18: 125، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 3، الحديث1.
([49]) الروم 30: 39.
([50]) وسائل الشيعة 18: 126، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 3، الحديث 2.
([51]) البقرة 2: 275 ـ 279.
([52]) آل عمران 3: 130.
([53]) النساء 4:161.
([54]) الميزان 2: 415.
([55]) تفسير المنار 3: 107 .
([56]) الانفال 8: 42.
([57]) البقرة 2: 209 و220 و228 و240 و260 ، المائدة 5: 38، الأنعام 6: 83 و128.
([58]) آل عمران 3: 182، الانفال 8: 51، الحج 22: 10، فصلّت 41: 46، ق 50: 29.
([59]) البقرة 2: 29 و231، 282. والنساء 4: 176. والمائدة 5: 97.
([60]) الاسراء 17: 85.
([61]) البقرة 2: 183.
([62]) آل عمران 3: 97.
([63]) الحجّ 22: 28.
([64]) العنكبوت 29: 45.
([65]) العنكبوت 29: 45.
([66]) بحار الأنوار 82: 248، الباب 2، الحديث 1.
([67]) وسائل الشيعة 4: 43، ابواب استحباب ابتداء النوافل، ، الباب 12، الحديث 1 و2.
([68]) وسائل الشيعة 13: 353، و354، كتاب الحج، أبواب الطواف، الباب 30 ، الحديث 1 و5.
([69])
([70]) البقرة 2: 280.
([71]) آل عمران 3: 130.
([72]) وسائل الشيعة 18: 123، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 19.
([73]) وسائل الشيعة 18: 132، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 6، الحديث 1.
([74]) وسائل الشيعة 18: 132، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 6، الحديث 3.
([75]) فروع الكافي 5: 146، الحديث 10، ومن لايحضره الفقيه 3: 175، الحديث 786، الاستبصار 3:101، الحديث .35.
([76]) ورواه الشيخ باسناده عن احمد بن محمد ، تهذيب الأحكام 7: 17، الحديث 74، وباسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن ابن بكير، (تهذيب الأحكام 7: 94، الحديث 397) وباسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن صفوان، (تهذيب الأحكام 7: 118، الحديث 515).
([77]) وسائل الشيعة 18: 134، كتاب الشجارة ، أبواب الربا، الباب 6، الحديث 5.
([78]) الروم 30: 39.
([79]) وسائل الشيعة 18: 160، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 18، الحديث 1.
([80]) وسائل الشيعة 18: 190، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 12، الحديث 1.
([81]) وسائل الشيعة 18: 190، كتاب التجارة ، أبواب الصرف، الباب 12.
([82]) البقرة 2: 279.
([83]) كتاب البيع 2: 406.
([84]) مسالك الأفهام 3: 316.
([85]) وسائل الشيعة 18: 121، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 11.
([86]) غاية المراد 2: 114.
([87]) كنز العرفان في فقه القرآن 2: 36.
([88]) جامع المقاصد 4: 265.
([89]) فقه القرآن 2: 45.
([90]) جواهر الكلام 23: 334.
([91]) كتاب البيع 2: 417 ـ 405 .
([92]) البقرة 2: 279.
([93]) النساء 4: 161.
([94]) وسائل الشيعة 18: 120، كتاب التجارة، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 8.
([95]) وسائل الشيعة 18: 120، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 10.
([96]) أي نقص .
([97]) وسائل الشيعة 18: 121، كتاب التجارة ، أبواب الربا، الباب 1، الحديث 11.
([98]) جواهر الكلام 23: 334.
العنوان اللاحق العنوان السابق




جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org